مُنذُ أن كُنتُ طِفلاً و أنا أسمعُ جدَّتي تقولُ للدكتور .. حكيم.
و كان جدّي منَ الأطِبّاءِ القُدماءِ المعروفينَ على مُستوى مَدينَتي .. كتبَ على مَدخِلِ عيادتِه: الطَبيب.
منذُ ذلك الوقت و أنا أتساءَلُ ما الفرق … لماذا حكيمٌ و لماذا طَبيب بل أين كلمةُ دُكتور ؟
شخصِيّاً أعجَبتني كَلمةُ طبيب فَقد استشعَرتُ فيها الحِكمةَ و الطَبابةَ و الإِنسانيّة
و ألهمتـنــي الصـبرَ علــى فــكِّ طلاسِـــم و رُمــوزِ و عـبــاراتِ الكُـتـــبِ الطبّـيــــة.
كانَ جدّي طبيباً بارعاً في المُمارسةِ الطبّيــةِ و تشــخيصِ المرض و تقديــمِ العــلاج
مواســـياً للمريــض مُمازحــاً لهُ تارةً و حازِمــاً معـهُ تارةً أخـرى بلا هــوانٍ ولا إحــراج
كانَ شديدَ الفطنةِ يُراقبُ حَركاتِ مَريضهِ و إيماءاتِهِ و الحُروفَ (كيفَ ينطِقُها بالإخراج)
يَنظُرُ إلــى بُنيتـهِ و لونـهِ و شكلـهِ و أسنانـهِ و أطرافـهِ و نَظَراتـهِ عبرَ عظـمِ الحجـاج
يَستشعِرُ صوتَ نَفَسِهِ شَهيقاً و زفيراً وصولاً للإستنتاج
كلُّ هذا لحظـةَ دخـولِ المريــضِ العيــادةَ و إلقـاءِ السَّــلامِ و المُصافَحــةِ الأولــى
و غالبا ما كان يتوصَّلُ الى التَشخيصِ فورَ كلامهِ مع المريض في اللحظة الأولى
كانَ يُبَلسِمُ الجِّراحَ بإنسانيّتهِ و عطاءهِ و كَرمهِ
إنسانِـيَّـتُـهُ كانَت رايةً بيضاء يوصلُ بها رسالتَهُ
كـــان أيضــاً حكيـمـــاً يُنــاقِــــــشُ بالــــرأيِ ولا يجــــادل
يَلجأُ إليهِ الكثيرُ من المتخاصِمينَ لفضِّ النزاعِ و المشاكل
يفكِّرُ تماماً فيما يَقول و فيما يَسمع و يعرِفُ تماماً أينَ و متى يتكلَّم
بالإضافَـةِ إلـى كونِـهِ يتمتَّعُ بشــخصيَّـةٍ رُجوليَّــةٍ قويَّــة و لا يَتلعثَــم
كَلمتهُ بالدليلِ و البُرهـانِ و الثّـوابِـــت
يواجِهُ بها كلَّ مَن تطبَّعَ بِطبعِ النّوابِت
في شخصيَّةِ جدّي وجدتُ جوابَ تَساؤلاتي:
هوَ إنسانٌ معَ النّاس
حَكيـــمٌ بيـنَ النّـــاس
طَبيــبٌ لأجلِ النّــاس
قديماً لم يكن من السّهلِ أبداً الوُصولُ لِهذهِ المرحلةِ العلميّةِ المتقدّمة
ولم يكن من السَّهلِ أيضاً الوُصولُ إلى المَراجع العلميّةِ و المعلوماتِ الطبّيّةِ إلا بِشَقِّ الأنفُس
و هذا ما جَعلَ من دكاتِرةِ الزمنِ الماضي أطبّاءَ و حُكَماء.
د.فائز محمود سفاف